حين يتوارى القمر وتختبئ الشمس
--------------------------------------------------------------------------------
حين يتوارى القمر وتختبئ الشمس
************
في جنح الظلمة ودعته ، يرقبهما قمر بعيد بعيد ، سام هو القمر كأهدافه ، مشع كبريق عينيه ، أبيض أبيض كبياض قلبه ... وما زال يرقبهما ... تطبع على جبينه الوضاء قبلة ... ثم تغطيها بعصبة العزة ، تزينه بالبندقية التي طالما لازمته ، تعلق على بزته العسكرية نياشين الفخر والبطولة معلقة معها آمال شعب ، ودعوات من قلب أم حرى ، زرعت فحصدت ، وجدت فوجدت.
طاردته بنظرات هي تعلم أنها قد تكون الأخيرة ،يبتعد حاملا معه سكنات روحها ، سارقا النوم من جفونها ، يبتلعه ظلام الليل ... لم تعد تراه .... أعطت الإدن لعبرات حبستها في المآقي بأن تشق سبيلها في وجنتين ألهبتهما حمرة الفراق ...جلست على كرسيه الدي لطالما رأت فيه عرينا للأسد ، عرفته رجلا في جسد طفل ، لعبته بندقية وأغنيته نشيد وطن وكتابه تاريخ شعب ، وقصته كفاح أب وجد ، انشأته ليكون يدا خيرة تلثم الجراح ،لمس عطاءها الكثيرون ، وليكون جبهة تعانق سماء العز والكبرياء ، الكبرياء الدي أرضعته صغيرا والعز الدي نقشته في قلبه صفحات وصفحات ، فأضحى كتابا قرأه العدو قبل الصديق ، تخط هي اليوم لمساتها الأخيرة في دلك الكتاب الدي أحسنت مقدمته ومحتواه ، فأحسن وليدها اختيار خاتمته .... ربته ليكون ابنا لكل من عرفه ، أحب الجميع فأحبه الجميع ، اقتدى به الصغار وكان محط أنظار الكبار .
لم تكن الطريق لدلك سهلة ولكنك يا أمه درست معالمها جيدا ، وتغلبت على وعورتها ، ما يئست يوما ولا تعبت ، فأنت تعلمين وجهتك وغايتك ، يدفعك حماسك للآتي فتمشين وتمشين ، تزداد العراقيل فيعظم الإصرار ، فيغدو للعداب طعم حلو ، ولا تأبهين بالأشواك التي افترشت طريقك ، فقلبك واثق ومعاهد روحك على المضي .
هدا كان دأبك دائما ، لم تهني يوما ولم تخوني العهد ، فإدا رأى القمر جمال روحك توارى حييا ، وإن رأت الشمس كبرياءك اختبأت وراء الغيمات ، سكنت الأمواج إد علمت عواطفك الهدارة ، وهربت من الدواوين الأشعار لما سمعت كلماتك ، كيف لا وأنت العينان اللتان طالما نهل منهما أبناؤك الامل ، العزم والقوة والإرادة ، كيف لا وأنت الرحم الدي ما فتئ ينجب امثال خالد وصلاح ، فككت انت القيد ورميته بوجه الجاهلية ، تقدمت في درب البطولة ، فقد ولى عهد الماس فتزينت بالبندقية ، وما نسيت يوما مأساة هجرة ولجوء ملأت عليك كيانك طفلة وأخدت كل تفكيرك فتاة ، نقشتها في أدهان أطفالك أما ، وأعددتهم للرجوع يوما، رسمت لهم الطريق فمشوا فيه بخطى ثابتة حثيثة أحدهم تلو الآخر .
تلملم جراحاتها وأناتها وتكفكف دمعها ، فقد دكرت الخنساء ، فجأة انطلق صوت ملأ الآفاق ليقطع انسياب دكرياتها .... إنه صوت الأدان معلنا بدء نهار جديد ... تقوم فتتوضأ وتصلي ، ثم ترفع أكفهانحو السماء ضارعة إلى الله أن يحقق المبتغى ، وما برحت دعواتها تنهال كما انهال رصاص وليدها على رؤوس المحتلين في ليلة مرت عليهم كالصاعقة ، يزف الخبر ... هزيمة للعدو على يد ابن السبعة عشر ربيعا .
وكما ودعته استقبلته ، مع فارق وحيد ، ودعته واقفا يرفع هامة تعانق النجوم ، واستقبلته جسدا مسجى محمولا وجبينه يقطر دما ممزوجا بالعز والفخار ... يختلط الدم بتراب الأرض لتكتمل ملامح قصة الوفاء والتاريخ العريق ....غاب الجسد ، وبقيت الروح تطبع على جبين المجد صورة لا تفنى ، والختم فوق الصورة باسم رائع روعة راسمه (أم الشهيد).
لملمت شتات نفسها فهي تعلم ان شقيقه الأصغر لا بد سائر على دات الدرب ، ولا بد من زاد تصنعه له بيديها .... فقد تصبح أم أسير أو جريح . هؤلاء هن امهاتنا ... فكيف بنا نخاف على
أمنا الكبرى
فـلـسـطـيـن[center]