الحرم القدسي الشريف بالقدس
مدينة القدس.. التأصيل التاريخي
إن الانتفاض دفاعًا عن القدس ليس مقصورًا على أهلها فحسب من أبناء الشعب الفلسطيني البطل؛ بل الذود أو الدفاع عن القدس واجب ينسحب على كل مَنْ له علاقة بالمدينة المقدسة؛ وطنيًّا، أو قوميًّا، أو إسلاميًّا، في مواجهة تلك القلة من الصهاينة المارقين على كل حقائق التاريخ وثوابت الجغرافيا وأصول العقائد الصحيحة(1)، نستهدف من هذا المقال الوقوف والإلمام بواحد من أهم جوانب قضية القدس، ألا وهو الجانب التاريخي والمعماري؛ في محاولة لتأصيل أدلة هذا البعد المهم من أبعاد هوية المدينة العريقة في بؤرة الضوء؛ لينال حقه في الذود عنه.
فبرغم أن عروبة فلسطين ومدينة القدس باتت من المسائل المحقَّقَة علميًّا، والمتواترة تاريخيًّا وسياسيًّا؛ لا تزال دوائر الدعاية الصهيونية عامة و"الإسرائيلية" خاصة؛ تخوض وتتمادى في تنكرها لهذه الحقيقة، الأمر الذي يفرض ضرورة الإحاطة بهذه المدينة، والتي شهدت لها المصادر اليهودية قبل العربية والإسلامية بعروبتها(2)، وأبرز ما انتهت إليه هذه المصادر اليهودية ممثلة في دائرة المعارف اليهودية، والتي اعترفت بأن فلسطين أصبحت بلدًا عربية ليس بسبب الفتح الإسلامي فحسب؛ ولكن لأن العرب قد أتوا إليها منذ قرون مضت، وكذلك أثبتت هذه المصادر أن كل الأسماء التي عرفت بها هذه المدينة- باستثناء إيليا- هي أسماء عربية، حتى (أورشليم وصهيون)(3).
والقدس مدينة التاريخ منذ اليوم الذي سطر فيه التاريخ صحائفه الأولى، وحتى يومنا هذا، وهي بيت الأنبياء، ومن آفاقها امتلأت سماء الدنيا بالإيمان، وقبل ستة آلاف سنة وضع العرب الكنعانيون حجر الأساس لبناء المدينة, ومرّ الزمن، وتعاقب الفاتحون والغزاة والدخلاء، وها نحن ننطلق إلى القدس تلك البقعة الروحية التي تتعلق بها أفئدة العرب والمسلمين؛ لنرصد آثارها الإسلامية عبر تاريخها الإسلامي.
فمدينة القدس حافلة بالمباني الأثرية الإسلامية؛ ففيها ما يقرب من 100 بناء أثري، تنوعت ما بين مساجد ومدارس وخانقاوات وأسبلة وتكايا، وأسوار، وتحصينات، ودور علم، وبيمارستانات، وللأسف زال الكثير من هذه المعالم من جرّاء الاهتزازات الأرضية والزلازل التي تعرضت لها المدينة عبر تاريخها، إلى جانب أعمال التخريب التي قام بها اليهود وما زالوا.
وقد يتساءل البعض عن كم المنشآت المعمارية التي حرص حكام وملوك وأمراء مسلمون على تشييدها في المدينة، رغم أنها لم تكن دار خلافة كعواصم أخرى؛ مثل القاهرة، وبغداد، ودمشق، ولم تكن ذات مركز سياسي في عصر من العصور الإسلامية!!
والجواب على هذا التساؤل بسيط، فالقدس مدينة أظهر الإسلام ونبي الإسلام تعلقه واهتمامه بها من النشأة الأولى للإسلام، فكانت قبلة المسلمين الأولى حتى السنة الثانية من الهجرة، وإليها كان إسراء رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومنها كان معراجه إلى السماء، وفيها المسجد الأقصى الذي عده النبي عليه السلام أحد ثلاثة مساجد كبرى في الإسلام، لا تُشَدُّ الرحال إلا إليها؛ لشأنها الخاص، ولهذا اهتم الخلفاء والملوك والأمراء والولاة على مر التاريخ الإسلامي بعمارة المدينة، وتشييد مبانٍ تحمل اسمهم؛ قاصدين بذلك فعل الخير، ونيل الأجر، والتعبير عما تفيض به قلوبهم ومشاعرهم من المحبة والتقديس لهذه المدينة(4).
آثار عصر الخلفاء الراشدين (مسجد عمر)
الصخرة الشريفة التي عرج النبي من عليها إلى السماء
بعد هزيمة الروم في معركة اليرموك أصبح الطريق مفتوحًا أمام المسلمين بقيادة سيدنا أبو عبيدة بن الجراح؛ ولكن بطريرك المدينة ويدعى "صفر نيوس" طلب أن يسلم مفاتيح المدينة للخليفة عمر بن الخطاب الذي خرج بنفسه لبيت المقدس، وذلك تكريم لها وإجلال لأصولها الدينية في الإسلام، وأظهر سيدنا عمر غداة استلام بيت المقدس كل احترام وتقدير لأصولها الدينية، فبعد أن استلم مفاتيح المدينة وأعطى الأمان لأهلها من النصارى، فيما يعرف "بالعهدة العُمرية"، قام بجولة تفَقَّد فيها ما بقي في المدينة من معالم معمارية وخاصة المناطق المرتبطة بحادثة الإسراء والمعراج، وبدأ الزيارة أولاً بكنيسة القيامة في صحبة البطريرك "صفر نيوس" ولما حان وقت الصلاة طلب "صفر نيوس" من الخليفة عمر أن يصلي مكان زيارته داخل الكنيسة؛ ولكن الخليفة عمر رضي الله عنه رفض ذلك، وصلى خارج الكنيسة؛ خشية أن يتخذ المسلمون من ذلك ذريعة للاستيلاء على الكنيسة، وهو أمر حمده له المسيحيون تقديرًا منهم لهذه الخطوة التي تكشف في جلاء عن احترام المسلمين للأصول الدينية لبيت المقدس.
ثم قام سيدنا عمر بعد زيارته لكنيسة القيامة بجولة للبحث والتنقيب عن المعالم المعمارية للمسجد الأقصى على إثر وهدي ما تحدث الرسول صلى الله عليه وسلم عنه في حديثه عن الإسراء به إلى بيت المقدس، وكانت تلك المناطق مليئة بأكوام من الأتربة، وقد علاها الزبل والقاذورات والمخلفات الكثيرة التي غطت الصخرة الشريفة والمسجد؛ بسبب الإهمال لشئونها من جانب الروم قبل الفتح الإسلامي.
واستشار سيدنا عمر بعض المسلمين من اليهود السابقين والذين صحبوه في الزيارة، وعلى رأسهم كعب الأحبار، فقد سأله سيدنا عمر قائلاً: "... يا أبا إسحاق، أتعرف موضع الصخرة؟ قال: أذرع من الحائط الذي يلي وادي جهنم- وهو السور الشرقي لبيت المقدس- ثم احفر فإنك تجدها ..."، وأخذ سيدنا عمر يتابع البحث عن موضع الصخرة والمسجد الذي صلى به النبي محمد صلى الله عليه وسلم بالأنبياء واضعًا نصب عينيه الرواية التي سمعها من الرسول الكريم ليلة أسري به إلى المسجد الأقصى، واستطاع أن يصل بعد جهد إلى باب مسجد بيت المقدس، وكان مطمورًا بالأتربة، ثم وصل حَبْوًا إلى صحن المسجد، فتأمل مليًّا في المكان ثم قال: "هذا- والذي نفسي بيده- وصفه لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم"، ثم طلب من خلفائه القائمين على شئون القدس إعلاء قواعد وأسس المسجد، كما أمر بإقامة ظلة من الخشب فوق الصخرة المقدسة، وغدا سيدنا عمر بذلك أول من رفع قواعد المسجد الأقصى في الإسلام سنة 15هـ.
وقد اتفق جمهور المؤرخين على أن سيدنا عمر أقام مسجدًا متواضعًا وصغيرًا في الجزء الجنوبي من الحرم القدسي بالقرب من المكان الذي رُبِط به البراق، ورغم أن كثيرًا من المؤرخين والرحالة المسلمين زاروا بيت المقدس؛ إلا أن أحدا منهم لم يذكر لنا كيف كان بناء المسجد وهيئته؛ ولكن لحسن الحظ وصفه أحد الحجاج المسيحيين يسمى "اركولف" (Archuif)؛ حيث زار بيت المقدس في ظل السيادة الإسلامية، وذلك سنة 670م؛ أي بعد 34 عامًا من استلام سيدنا عمر المدينة، فقال اركولف: "يتردد العرب الآن على مبنى مربع الشكل للعبادة، وهو مبنى متواضع مُنْشَأ من عروق خشبية ضخمة مرفوعة فوق مخلفات الخرائب، ويقال إن هذا المسجد يتسع لثلاثة آلاف من المصلين في وقت واحد"(5).
ويذكر العالم الأثري كريزويل أيضًا- بناءً على الروايات التاريخية- أن مسجد سيدنا عمر بُنِي من الخشب في أول عهده(6)، ويعتبر مسجد سيدنا عمر هو النواة الأولى لبناء المسجد الأقصى في العصر الإسلامي، وسوف نفرد مقالاً آخر عن التطور المعماري للمسجد الأقصى.
آثار العصر الأموي (قبة الصخرة)
منظر عام لقبة الضخرة من الداخل
أَوْلَى خلفاء بني أمية مدينة القدس اهتمامًا كبيرًا، وبنَوْا قصورًا لهم اكتُشفت حديثًا في جنوب المسجد الأقصى وجنوبه الغربي؛ ولكن أكثر الآثار المرتبطة بالعصر الأموي هي قبة الصخرة وتجديد المسجد الأقصى، وتعتبر قبة الصخرة المُشَرَّفة هي أقدم الآثار الإسلامية في القدس وأنْفَسها وأكثرها جمالاً وبهاءً، ويعتبرها البعض أقدم أثر في تاريخ العمارة الإسلامية شيدها الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان، وأتم بناءها بها ما بين سنة 66:72هـ/ 685:691 م، وقد تكلفت نفقات عالية؛ حيث خصص لها الخليفة عبد الملك بن مروان خراج أغنى ولايات الدولة الإسلامية- وهي مصر- مدة سبع سنوات(7)، وجاء تخطيط القبة على هيئة مُثَمَّن؛ ليحيط بالصخرة المقدسة، وبما يتناسب مع حجمها؛ حيث يبلغ طولها من الشمال إلى الجنوب 18م، وعرضها 13م، أما البناء المحيط بالصخرة فيتكون من مُثَمَّنَيْن متوازيين طول ضلع المثمن الداخلي 14.40م، وطول ضلع المثمن الخارجي 20.6م، ويوجد وسط المثمن دائرة تحيط بالصخرة، ويبلغ قطرها 20.44م، وتعلوها قبة يبلغ ارتفاعها عن سطح الأرض 105 أقدام، ومنها أخذ البناء اسمه المعروف اليوم باسم مسجد قبة الصخرة(
.
وصارت قبة الصخرة منذ العصر الأموي وإلى اليوم دُرَّة العمارة الإسلامية على مر العصور، وجذبت بزخارفها الرحالة المسلمين وغير المسلمين؛ حيث يزخرف قبتها من الداخل زخارف من الفسيفساء، ويبلغ مجموع مساحة الجدران المزخرفة بالفسيفساء 1200م، وقد سجل الخليفة عبد الملك بن مروان اسمه وتاريخ الانتهاء من بناء القبة في شريط كتابي؛ غير أن تغييرًا نال هذه الكتابة على عهد الخليفة العباسي المأمون(9).
آثار العصر الفاطمي
خريطة لموقع المسجد الأقصى
مع بدء الضعف في الخلافة العباسية، وانتهاء حكم الطولونيين في مصر استولى الفاطميون على بيت المقدس سنة 359هـ/ 969م، واهتم الخلفاء الفاطميون بالقدس وبالمسجد الأقصى، وأقاموا إلى جانب ذلك كثيرًا من العمائر؛ منها البيمارستان الذي خصصوا له مبالغ كبيرة، ودارًا للعلم كانت فرعًا من دار الحكمة التي أسسها الفاطميون في القاهرة، وقام بتسجيل هذا النشاط الفاطمي للعمائر الإسلامية ببيت المقدس الرحالة الفارسي ناصر خسرو الذي زار المدينة سنة 440هـ/1048م.(10)، ولكن لم يبق من هذه العمائر شيء يذكر؛ بسبب غارات القرامطة في القرن الرابع الهجري والاحتلال الصليبي للمدينة(11).
بعد استرداد صلاح الدين بيت المقدس بعد معركة حطين 583هـ/ 1187م أمر بإصلاح العمائر الإسلامية في القدس، فمن المعلوم تاريخيًّا أن الصليبيين أنزلوا بالتراث المعماري الإسلامي بالمدينة الكثير من معالم الطمس والتشويه والإضرار، وذلك على امتداد 90 عامًا، وبدأت خطة تخريبهم بإخفاء معالم المسجد الأقصى وقبة الصخرة؛ ببناء الحوائط الداخلية ومذبح فوق الصخرة المباركة وكنيسة، وطمسوا الزخارف بالصلبان، فأمر فورًا صلاح الدين بسرعة إزالة التعديات المعمارية، ونظفت قبة الصخرة والمسجد الأقصى من الصلبان والخنازير، وغسلت الصخرة بالماء الطاهر، وأسس خانقاة عرفت بالخانقاة الصلاحية في الشمال الغربي من كنيسة القيامة في حارة النصارى، وجعلها رباطًا للصوفية، كما شيد المدرسة الصلاحية عند باب الأسباط؛ لتدريس المذهب الشافعي، وللقضاء على المذهب الشيعي، وجدد البيمارستان الذي شيده الفاطميون قبل ذلك، وتابع صلاح الدين ذلك حتى استرد البيمارستان نشاطه الطبي، كما أولى صلاح الدين عناية خاصة بالعمائر الحربية؛ فبنى أسوار المدينة وأبراجها؛ مما حمى المدينة من أي غارات صليبية فيما بعد(12).
ومن الآثار الأيوبية أيضًا بالمدينة الجامع العمري الذي شيده الملك الأفضل نور الدين أبو الحسن علي بن صلاح الدين سنة 589هـ / 1193م أثناء سلطنته على دمشق، ويعرف اليوم بجامع عمر، ويقع بالقرب من كنيسة القيامة في الجهة الجنوبية الغربية، وقبة المعراج أنشأها الأمير عز الدين أبو عمر متولي القدس سنة 597هـ / 1201م، وتقع بالقرب من الصخرة المشرفة من الجهة الشمالية الغربية، والزاوية الجراحية بظاهر القدس القديمة من جهة الشمال وتنسب للأمير حسام الدين الجراحي أحد أمراء صلاح الدين، والمدرسة الناصرية والتي اعتكف بها العلامة أبو حامد الغزالي، وزاوية الدركاء بجوار البيمارستان الصلاحي، وتربة الملك حسام الدين بركة خان في الجهة الجنوبية من طريق باب السلسلة وتعرف اليوم بالمكتبة الخالدية، وقد شيدت سنة 644هـ / 1246م(13)، وشيد الملك عيسى بن الملك العادل الأيوبي قبة تقع بالزاوية الجنوبية الغربية من صحن قبة الصخرة، كما أنشأ سبيلاً يعرف بسبيل مشعلان يقع في داخل ساحة الحرم، كما أنشأ مدرسة تعرف بالمدرسة المعظمية، وموقعها مقابل باب شرف الأنبياء المعروف اليوم بباب الملك فيصل(14).
آثار العصر المملوكي
مسقط أفقي للمسجد الأقصى
دخلت القدس في حوزة المماليك في سنة 651هـ / 1253م وبقيت كذلك حتى سنة 922هـ / 1516م، وفي تلك الفترة حظيت المدينة باهتمام كبير، وحرص كثير من سلاطين المماليك على زيارة المدينة منهم الظاهر بيبرس، والمنصور قلاوون، والناصر محمد بن قلاوون، والأشرف خليل الذي استطاع أن يقضي على بقايا الصليبيين في بلاد الشام نهائيًّا، وغدت القدس زمن المماليك مركزًا من أهم المراكز العلمية في العالم الإسلامي(15)، وتذخر مدينة القدس بالعديد من الآثار المملوكية لا يتسع المجال لحصرها، ومن أشهر آثارهم المعمارية بالمدينة الرباط المنصوري الذي شيده السلطان المنصور قلاوون سنة 681هـ / 1282م، ويقع في الجهة الجنوبية من طريق باب الناظر، ورباط كرد يقع بباب الحديد ملاصقًا لسور الحرم أنشأه المقر السيفي كرد صاحب الديار المصرية، وقد انهار هذا الرباط جزئيًّا سنة 1971م من جراء الحفريات التي قام بها الصهاينة تحت سور الحرم الغربي شمالي حائط البراق(16)، كما شيد السلطان قايتباي مجموعة من الأعمال المعمارية بالقدس؛ أهمها المدرسة الأشرفية المشيدة سنة 885هـ / 1480م وتقع عند باب السلسلة بجوار المدرسة العثمانية، كما شيد سبيلاً يعرف بسبيل قايتباي في مقابل المدرسة(17).
ومن الآثار المملوكية أيضًا المدرسة العثمانية، وتعرف اليوم بدار الفتياني، وتقع على يسار الخارج من الحرم من باب المتوضأ المعروف بباب المطهرة شيدتها أصفهان شاه خاتون سنة 840هـ / 1437م، والمدرسة الجوهرية بطريق باب الحديد في الجهة الشمالية تجاه المدرسة الأرغونية المدفون بها الملك حسين بن علي، وتعرف اليوم بدار الخطيب، ومن منشآت المماليك بالقدس أيضًا المدرسة المزهرية بباب الحديد؛ شيدها أبو بكر مزهر سنة 885هـ / 1480م، والمدرسة الباسطية شمال الحرم بالقرب من باب الملك فيصل، وتشغلها اليوم مدرسة الإناث الإسلامية شيدها القاضي زين الدين عبد الباسط، وجدير بالذكر أن الحرص الكبير على تشييد المدارس بالمدينة يدل دلالة واضحة على أن مدينة القدس كانت في تلك الأزمنة مركزًا كبيرًا للثقافة الإسلامية؛ حيث يفد إليها المسلمون من جميع الأقطار لزيارة أماكنها المقدسة، وبدافع نيل العلم والمعرفة(18).
آثار العصر العثماني
أسوار مدينة القدس التي شيدها السلطان سليمان القانوني
لما تولى سلاطين الدولة العثمانية أمر مدينة القدس منذ عام 1517م لم يعتلِ أحد منهم العرش إلا وفكر في أن يكون له شرف وضع بصمة من بصماته على قبة الصخرة يمنًا وبركةً، ومن السلاطين العثمانيين الذين اعتنوا بعمارة قبة الصخرة السلطان محمود، والسلطان عبد الحميد، والسلطان عبد العزيز، والسلطان عبد المجيد الثاني، ومن أشهر السلاطين العثمانيين الذين اهتموا بالقدس اهتمامًا خاصًّا السلطان سليمان القانوني؛ فقد أقام بها منشآت معمارية كثيرة؛ أهمها سور القدس الذي دامت عمارته خمسة أعوام، وفتح بالسور عدة أبواب؛ منها باب العمود، ويعرف بباب دمشق، وباب الساهرة على بعد نصف كيلو من باب العمود، وباب الأسباط، وباب المغاربة، وباب النبي داوود في الحائط الجنوبي لسور القدس، وباب الخليل، كما شيد السلطان سليمان القانوني عدة أسبلة في الطرق الرئيسية المؤدية إلى المسجد الأقصى بالقرب من مداخله، وفي عهده تم تجديد الفسيفساء بقبة الصخرة.
ومن الآثار المعمارية العثمانية بالقدس المسجد القيمري؛ يقع إلى الغرب من الباب الجديد، ويرجع تاريخه إلى القرن 10هـ / 16م، وحمام السلطان، وقبر النبي داوود، ويرجع تاريخه لسنة 930هـ / 1524م، وجامع المولوية بداخل سور المدينة شُيِّد سنة 995هـ / 1586م، والزاوية النقشبندية تبعد 100م إلى الغرب من باب الغوانمة شُيِّدَتْ سنة 1040هـ / 1630م وكان أحد أجنحتها يضم المحكمة الشرعية خلال فترة الانتداب البريطاني(19).
وأخيرًا.. نقول إن هذا الزخم المعماري المتنوع زمنيًّا ووظيفيًّا في بيت المقدس في العصر الإسلامي يمثل تأصيلاً لمكانة المدينة عربيًّا وإسلاميًّا، فأمام تلك المعطيات الحضارية فإن اليهود الذين نزحوا عن بلاد العرب، وظلوا بعيدين عنها قرابة ألفي عام، أو الأوروبيين الذين تهودوا ويحاولون الهيمنة على فلسطين والقدس بأكملها لن يكونوا قادرين على فرض الهيمنة، ولن تكون "إسرائيل" إلا ظاهرة مصطنعة، لا يكتب لها التاريخ امتداد البقاء؛ لأنها ضد طبيعة الزمان والمكان الفريدين للقدس وفلسطين، والنهاية لهم قادمة بنص القرآن والسنة، اللهم عجِّل بها.. آمين.